يحتفل هذه الأيام بذكرى الشاعر الإيراني الحكيم عمر الخيام بعد ألف عام من ولادته في مدينة نيسابور بضواحي خراسان في إيران، فما سر خلود هذا الشاعر وإعجاب الناس على اختلاف لغاتهم وطبائعهم برباعياته التي تجاوزت ترجماتها للعربية الستين؟
وهذا التكريم ناجم عن جهود هذا الشاعر لتحقيق الوفاق الإنساني والتعايش السلمي والتسامح في عصر اتسم بالعنصرية والمادية والتشاحن فضلاً عن تطويره لعلوم الفلك والرياضيات والطبيعيات والموسيقا والفلسفة.
إن الغاية الأساسية من تكريم هذا المفكر العملاق هي تصحيح الصورة والشبهة التي التصقت به في الأدب العربي خلال القرن الأخير على حين إن الخيام كان تلو ابن سينا في الحكمة ويضرب به المثل في النجوم ويعتبر سيد حكماء الشرق والغرب وأزخرهم بحراً وأرفعهم قدراً وأطولهم في الرياضيات باعاً.
والخيام كان يجيد العربية إجادة الفارسية ونظم شعراً عربياً وكان من العلماء المسلمين البارزين في القرن الخامس الهجري حيث فاضت روحه بينما كان ساجداً في آخر لحظات عمره وهو يردد:
سئمت يا رب من حياتي / وكل هذا الضيق بالحاجات/ وأنت من تخلق كل الورى/ من عدم ومن حياة الذات/ أدعوك أن تخرجني بالردى/ من عدم إلى الوجود الآتي
هناك أكثر من ستين أديباً وشاعراً ترجموا رباعيات الخيام إلى العربية بدءاً من أحمد رامي التي اختارت أم كلثوم منها قصيدة (سمعت صوتاً هاتفاً في السحر) لتكون من أشهر أغانيها وحيث إن أغلب الترجمات تمت بوساطة اللغة الإنكليزية فقد فقدت الكثير من مضامينها وتعتبر ترجمة الشاعر أحمد الصافي النجفي وهو من كبار شعراء عصر النهضة في العراق (1894-1977) وترجمة الأديب المصري أحمد رامي من أفضل الرباعيات المعربة نظراً إلى أن المعربين قاما بالترجمة مباشرة عن اللغة الفارسية كما عكفا على دراسة الفارسية وآدابها ولاسيما الصافي النجفي الذي أمضى ثماني سنوات يدرس الأدب الفارسي في المعاهد الإيرانية، كما لابد من التنويه بتعريب العلامة محمد الفراتي من سورية والراحل إبراهيم العريضي من البحرين والدكتور مصطفى جواد من العراق والعلامة عباس محمود العقاد لما لترجماتهم من أهمية جليلة ورائعة.
أشير إلى أن أبا حفص عمر الخيام من كبار فقهاء زمانه وله رسائل متعددة في الفقه والشريعة وأمثاله لا يأتون إلى الدنيا إلا في أحقاب متباعدة متطاولة، إنه شاعر ملأ الأرض عبقاً شعرياً تستطيبه مشام أولئك الذين أحبوا الجمال وأدهشتهم تجلياته في عالم الخلق.
ومن المعروف أن الخمرة في الأدب الفارسي الصوفي هي رمز للعشق الإلهي فالسكران هو العابد الزاهد والساقي هو الذي يعطي الخمرة ويدخل الفرحة على قلوب العباد حيث يرمز عادة إلى الباري المتعالي.
إن الذي شاء الخيام أن يقوله للناس من خلال رباعياته هو: لمَ القلق ومزيل القلق موجود؟ وهل هناك ما يستحق أن نقلق من أجله؟ وإذا كان هناك ما يبعث في النفس السرور والبهجة فلمَ العزوف عنه؟ وهو القائل: اشرب المدام التي تزيل/ من القلب هم الكثرة والقلة/ وتبعده عن الانشغال/ بالاثنتين والسبعين ملة/ ولا تتعف عن الكيمياء التي
تناول جرعة واحدة منها/ يزيل ألف علة وعلة
أشيد بالشاعر الإنكليزي فيتز جرالد الذي كسا عظام الخيام لحماً وأعاد إليه الروح من جديد وبعث الخيام من مرقده وأسمع أوروبا الحائرة صوته الرخيم ليملأ الخواء الروحي والمعنوي الذي يعاني منه أبناء قومه.
يرى الخيام أن العمر رأسمال الإنسان وعليه أن يعرف كيف يقضيه ولا ينسى بأن العمر قصير محدود طافح بالهموم والغموم يمر عابراً ويصفه بالقول:
قد انطوى سفر الشباب واغتدى/ ربيع أفراحي شتاء مجدبا/ لهفي لطير كان يُدعى بالصبا/ متى أتى وأي وقت ذهبا؟
أكثر من ثلاثمئة كتاب باللغة العربية دونت حول هذا الشاعر اللغز الذي حير العالم برباعياته العرفانية وحكمه الإنسانية ولا نزال نجهل الكثير من أفكاره، شاعر يدعو إلى التسامح والألفة ولم الشمل بلغة فلسفية خلدها التاريخ، شاعر يلفه التناقض والتضاد وهذا هو السر الكامن في كل فنان ومبدع.